\
ترانيم الصباح
المكان منزل السيد أوستن في مقاطعة ستبنفتون في الريف البريطاني .الزمان : صبيحة أحد الأحاد اواخر القرن الثامن عشر .. أفراد العائلة يستمتعون بساعات النوم الإضافية التي يحظون بها يوم الأحد , إجازتهم بعد أسبوع
حافل بالأشغال التي لا تنتهي , ووسط هذا الهدوء , أحدهم يعزف لحناً على البانيو الكبير في الصالة التي تتوسط حجراتهم , يهرع الإخوة ليروا مافي الأمر , وتجر السيدة أوستن طرف لحافها بإنزعاج قائلة : هذه الفتاة يجب أن تتزوج !! لم يكن ذلك العازف سوى جين فتاتهم الحالمة , العالمة , كانت لتوها قد أنهت أحد فصول روايتها :
فخرجت تعزف قليلاً لتستريح , كانت تقضي ليلها في استعادة شريط ذكرياتها اليومي , محللة سلوك الأشخاص الذين قابلتهم في الحديقة أو في الكنيسة أو خلال اجتماعات الجيران , ومحولة إياهم إلى شخصيات رئيسية لرواياتها , كانت جين تكتب ما تعيشه .. بقلمها , رسمت صورة مصغرة للمجتمع البريطاني الذي كان يسكن الأرياف , تحدثت في روايتها عن ملاك الأرياف الكبار , وأبدعت في وصف العائلات الارستقراطية باسلوبها الساخر , طريقة حديثهم ومشيتهم وهالة الإحترام التي يحيطهم بها بسطاء القوم , وكذلك البروتوكولات العجيبة التي تحكم حياتهم , وصفت أيضاً الاشخاص المغفلين المتشدقين بهؤلاء الأرستقراطيين وكيف تبدوا أشكالهم ساذجة حين يخاطبونهم وحين يحدثون العامة عنهم , كانت تعتمد كثيراً إلى نقد الأوضاع الاجتماعية المحيطة بها ولا تجد حرجاً في التهكم بها , كان لدى جين ايمان قوي بأن الرواية يجب أن تعكس تماماً صورة الواقع , أن توضح كيف أن الاشخاص السيئين هم دائما من يحالفهم الحظ في النهاية سواء بمال أو زواج , وجين بصراحتها هذه تخالف كثيرا من كتاب عصرها الذين يسعون إلى اخفاء الحقيقة , حيث يقدمون روايات مثالية يندم فيها الشخص المتغطرس أو يفقد ثروته , أو حتى بموت ! المهم لديهم هو المثالية في النهاية . في صالة المنزل , يجلس أفراد العائلة , وتقف جين لتحكي لهم أبرز ما حل بأبطال روايتها
جين الصدر الحنون
لأختها كساندرا ولأبناء إخوتها كانت جين حضناً دافئاً , وقلباً محباً , كانت تحتضنهم بقوة إذا ما اقبلوا عليها وتحيطهم بهالة من الحب , في محاولة منها لإشعارهم باستقلالهم , لا شباع عواطفهم وملء قلوبهم حتى لا يلجؤوا إلى أساليب غير سوية كما كانت ترى وتسمع من أخبار الجيران والأقارب , في كثير من الأوقات , كان يجتمع أفراد العائلة في صالتهم الداخلية , يأخذ كل منهم مقعده , ثم تتوسطهم جين واقفة , تحكي لهم أبرز تطورات روايتها , وهم بذلك يدعمون ابنتهم ويستمتعون بالشخصيات المثيرة التي تحركها لهم , ولا عجب أن يتخيل أحدهم نفسه مكان البطل , لأنها لم تكن تصور إلا واقعاً . في حفلات الرقص , تحرص الأمهات على أن تراقص بناتهن أوسم الشبان حتى يقعن في الحب , ويتزوجن فتنام الأمهات قريرات الأعين
حفلات الرقص
في ذلك الزمن لم تكن الفتاة تخرج كثيراً , الرجال فقط هم من تستلزم أعمالهم الذهاب بعيداً عن المنزل , أما البنات فيعمدن إلى اعمال المنزل من طبخ وتنظيف , وعناية بالخنازير أعزكم الله , لذا فرصتهم الوحيدة لا لتقاء الشبان كانت هي حفلات الرقص التي عادة ما يقيمها أثرياء البلد في منازلهم الكبيرة تتنافس الفتيات في التزين لهذه المناسبات طمعاً في جذب أوسم الشبان , حتى الأمهات يترقبن كثيراً مثلا تلك الحفلات , من أجل مستقبل بناتهن !! وأم جين كانت رائدة في ذلك , إذ يصبح هاجسها طوال الحفلة هو أن تكون ابنتها محط الأنظار , وتأخذ في مراقبة تصرفاتها , هل بدت بشوشة ومبتهجة دائماً , هل تحدثت بلباقة أم قد اعترتها نزوة من نزوات الطيش , فلم تستطع ضبط تصرفاتها , وعسى أن يكون الشبان الذين راقصتهم من علية القوم حتى تقع مع أحدهم في الحب ويتزوجا , وبذلك تضمن مستقبل ابنتها وتنام قريرة العين .
كانت تطغى على المجتمع فكرة أن زواج البنت من شأنه أن يعلي مكانتها الاجتماعية , وأن الفتاة إن يقيت بلا زواج فإنها تصبح بلا قيمة , وقد تضطر أن تعمل كخادمة أو أي عمل بسيط جداً . لا سيما في عرفهم لم تكن الفتاة ترث مطلقاً ! ولا عجب إن رأينا منهم مثل هذه الـ ( الخبطة ) والإجحاف الشديد في حق المرأة , فقوانينهم لم تكن تستند إلى دين أو شرع , إنما هي أنظمة جائرة تتبدل وفق الأهواء . قالت جين : "لا تستطيع الفتاة أن تتزوج بغير حب " ولم تتزوج العار , والفضيلة . حتى إن كان المجتمع البريطاني منذ ذلك الزمن منسلخاً عن الدين , تظل القيم الإنسانية هي ذاتها , وتظل قضية شرف الفتاة وسمعتها حساسة جداً , وواجب الفتاة أن تبعد كل ما من شأنه يثير الدخان حولها , بالطبع ما نراه الآن من واقع المجتمعات الغربية يدل على أن القيم اختلت تماماً , لقد محيت كلمة الفضيلة وكلمة العار أيضاً , وصار المجتمع أشبه ما يكون حيوانياً في بحثه عن سبل إشباع غرائزه . في روايتها الأشهر " كبرياء وهوى " تطرقت جين إلى موضوع هرب الفتاة , سمتها " ليديا " الفتاة الطائشة التي أحبت ضابطاً وسيماً بدا لها أنه فارس الفرسان , وأن لديه مالاً كثيراً , وجاهاً , وفوق كل ذلك طيب القلب ! وقبل أن تهرب سطرت " ليديا " رسالة طائشة مثلها تخبر فيها أن الضابط " ويكهام " هو الشخص الوحيد الذي تحبه وهو يحبها كثيراً , الحقيقة التي غابت عن ذهن الفتاة أنه ما من سبب قوي يدفع بالضابط للتعلق بها , فهي لا تنتمي لأسرة ذات مال أو منصب , بالطبع استجار أفراد العائلة من هذه الحماقة وأصبح الشبح الذي يهددهم هو العار الذي سيلحق بهم إن لم يتلطف الضابط ويتزوج : ليديا " وما زاد قضيتهم تعقيداً , انكشاف أمر الضابط المخادع , حيث ثبت أنه مستدين من نصف أهل بلدته وأنه سيء الطباع قليل الأدب كادت الأم تموت من الهم والحزن , اختلفت جين مع حبيبها توم , حول النهايات التي يفترض أن يصل إليها أبطال الرواية .
توم " حب جين الوحيد
كان قد تردد على نزل العائلة أكثر من مرة , كصديق لأخيها " هنري " وقد شارك في جلسة استماع لحكاياتها , ووقع حبها في قلبه لا سيما هو المغرم أيضا بالكتابة ويمتلك مكتبة كبيرة في بيته , وهو سليل أسرة ذات باع طويل في الأدب , كثيراً ما خرجت جين برفقته للتنزه في الباحة الرحبة بجوار المنزل , تناقشه في أمور الكتابة والرواية , في البداية كانت تختلف معه حول النهايات التي يفترض أن تصل إليها شخصيات الرواية , هو يرى أنه يجب تماماً التفريق ما بين الرواية والسيرة التاريخية , من حيث أن التاريخ يصور بصدق ما حصل من تطورات تمر بها الشخصية , أما الرواية فلدواعي الجذب والاستحواذ على عقول القراء لا مفر أن يخالطها شيء من الكذب وتدليس الحقائق المعروفة , وهذا ما أغضبها منه , لكن مع الوقت صارت تتخذ من خلافاتها إثراء لثقافتها , لفترة شعرت بأنه من الممكن أن تتخذ توم زوجاً لها , فهو الوحيد الذي أحبته من بين الكثيرين من أبناء الجيران والأصدقاء الذين تقدموا لها , وأغضبت أمها برفضها لهم , ولكن لخلاف بين الأسرتين لم تكن لتتمكن من الزواج به , فأقترح عليها توم فكرته المتهورة , الهرب ! وافقت جين بعد تفكير طويل وحزمت أغراضها , وفي الصباح كان ينتظرها عند نهاية الحديقة , واستقلا عربة أحصنة متجهة إلى لندن , توقفت العربة عند إحدى المحطات , فنزلا ليشربا القهوة في أحد المقاهي الصغيرة , كانت جين ساهمة التفكير , هي تعلم يقيناً أنها أقدمت على تصرف طائشاً وتدرك ما الذي سيحل بأسرتها بسببها , لا سيما أنها هي التي دائماً تسعى لمراقبة ردود الأفعال بمجتمعها تجاه حماقات كهذه ,لذا قامت بما يمليه عليها عقلها وأخبرت توم أنها لن تستطيع الاستمرار معه واقفلت عائدة من حيث أتت , لم تحب جين شخصاً آخر بعد توم ورفضت الشبان الذين تقدموا لها بعده لأنها ترى أنها لا يجب على أحد أن يجبر الفتاة على أن تتزوج بغير حب , لم تكمل الآنسة أوستن روايتها " آل واطسون " لأنها خافت على البطلة من المصير المؤلم الذي كان ينتظرها !
كبرياء وهوى
كبرياء وهوى أو كبرياء وتحامل , اختلف المترجمون على ذلك , محور الرواية كان يدور حول الانطباعات الأولية التي تتشكل في الأذهان حين لقاء أناس لأول مرة , وكيف أننا نخدع أحياناً بأناس يظهرون الطيبة والخير , لكن بمرور الوقت ينكشف زيفهم , وعلى النقيض هناك أشخاص يبدون متكبرين لا يهتمون بمن حولهم , لكن قد يكون هذا جزءاً من سلوكهم , ولو كشف عما بدواخلهم فقد نجد أناس رائعين , أتت جين في هذه الرواية على مواضيع عديدة كانت تؤرقها كالإرث والملكية والتدليس والمكائد " إليزابيث بنيت " بطلة الرواية تشبه جين إلى حد كبير , وكأن جين كانت توظفها كشخصية لتنقل منها حياتها إلى العالم , فـ " إليزابيث " هي الفتاة الذكية المرحة التي تحفل بشئون عائلتها كثيراً , جعلتها جين تعيش وسط أربع اخوات لتستمتع في رسم شخصيات مختلفة استشفتها ممن حولها من الفتيات , أم البنات كانت تشبه والدة جين إلى حد كبير , فهي المرأة الثرثارة التي لم تحظ بقدر من التعليم كالذي حظي به زوجها وهذا ما شكل ثغرة ظهرت من خلال الحوارات غير المتكافئة التي كانت تدور بينهما , وكسائر السيدات البريطانيات في عصرها كانت تنام وتصحو تفكر في أزواج لبناتها , وتعيش الوالدة قلقاً وتخاف من اليوم الذي يموت فيه الأب فينتقل المنزل بما فيه إلى ابن عمهم , إذ هو الوريث الوحيد . السيد دارسي الذي عافته إليزابيث في البداية كثيراً , لأنه بدأ جافاً عنيداً ولا مانع أن يجلس ساعة كاملة إلى جوار أحدهم , دون أن ينبس بكلمة ما , أصبح غريمها بعد ذلك , وأصبغت عليه جين من صفات حبيبها توم الشيء الكثير . نهاية الرواية كانت سعيدة , حيث تزوجت البنات الخمس , وإن كانت إليزابيث قد تأخرت عنهن , لم تنشر هذه الرواية فور انتهاء جين منها , حيث رفضها كثير من الناشرين لأسباب مادية , تركتها لفترة ثم نشرتها بإسم مجهول , واليوم تعد هذه الرواية من أشهر رواياتها الست . قدمت جين لقرائها ست روايات كاملة من أجملها " حديقة ماتنسفيلد العامة " و " إيما " . إضافة إلى رواية " آل واطسون " التي قد كتبتها لكنها لم تتمها لأنها خافت على بطلتها من المصير المؤلم الذي كان ينتظرها ! معظم رواياتها تحولت إلى أفلام وترجم الكثير منها إلى لغات عدة .
ورحلت عذراء الريف
لم تكن تجاوزت الأربعين عاماً عندما توفيت , الجدير بالذكر أنها لم تتزوج أبداً , بعد أن أقنعت بعناء أمها أنها ستعيش بقلمها , أمضت آخر حياتها في بيت أخيها الأثير لديها " هنري " يشار إلى قلة انتاجها في الأعوام الخمسة الأخيرة قبل وفاتها , وهذا يعني أنها قدمت كنزاً للعالم في خمسة وثلاثين عاماً فقط . وما زال النقاد يشيرون إلى روايات جين حتى اليوم , ويعدون كتاباتها مرجعاً حين يريدون تقييم الأعمال الجيدة , قال عنها أحد الناقدين : " إنها أعظم أدباء انجلترا بعد شكسبير " وكذلك قيل " لقد وجدت المرأة نفسها عندما ولدت جين " .
/